فصل: فَصْلٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِسُنَنِ اللهِ وَآيَاتِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)}
الصراطُ المستقيمُ إقامة العبودية عند تحقق الربوبية فهو فرق مؤيَّدٌ بجمع، وجمعٌ مقيدٌ بشرع، وإثباتٌ للعرفان بغاية الوسع، ونبو عن المخالفات بغاية الجهد، والتحقق بأنَّ المُجْرِي واحدٌ لا شريك له، ثم تركُ الاعتماد ونفي الاستناد، لا على (حركاته) يعتمد، ولا إلى سكناته يستند، (بل) ينتظر ما يفتح به التقدير، فإِن زاغَ صاحبُ الاستقامة لحظةً، والتفت يمنةً أو يسرةً سقط سقوطًا لا ينتعش. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيتين:

{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}.
هَذَا وَصَفٌ لِحَالِ الْمُسْتَعِدِّ لِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ بِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِ وَطَهَارَةِ نَفْسِهِ مِنَ الْخُلُقَيْنِ الصَّادَّيْنِ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَةِ الْحَقِّ وَهُمَا الْكِبْرِيَاءُ وَالْحَسَدُ وَبِتَحَلِّيهَا- أَيْ نَفْسُهُ- بِالْهَادِيَيْنِ إِلَى الْحَقِّ وَالرَّشَادِ. وَهُمَا اسْتِقْلَالُ الْفِكْرِ الصَّادِّ عَنْ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ الصَّارِفَةِ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مُجَارَاةِ الْأَنْدَادِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَهْلًا بِإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ لِقَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ وَمُهَذِّبُهَا، فَإِذَا أُلْقِيَتْ إِلَيْهِ وَجَدَ لَهَا فِي صَدْرِهِ انْشِرَاحًا وَاتِّسَاعًا بِمَا يَشْعُرُ بِهِ قَلْبُهُ مِنَ السُّرُورِ وَدَاعِيَةِ الْقَبُولِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَانِعًا مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيمَا أُلْقِيَ إِلَيْهِ فَيَتَأَمَّلُهُ فَتَظْهَرُ لَهُ آيَتُهُ، وَتَتَّضِحُ لَهُ دَلَالَتُهُ فَتَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِرَادَتُهُ، وَيُذْعِنُ لَهُ قَلْبُهُ فَتَتْبَعُهُ جَوَارِحُهُ، وَهَذَا هُوَ النُّورُ الَّذِي يَفِيضُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ بِاتِّبَاعِهِ لَهُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَابِلَةٌ لِآيَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَمَا الْعَهْدُ بِهَا بِبَعِيدٍ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [39: 22]. {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ {ضَيْقًا} بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، فَهُوَ كَمَيِّتٍ وَمَيْتٍ وَهَيِّنٍ وَهَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَلَيْنٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ {حَرِجًا} بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، فَهُوَ كَدَنَفٍ وَدَنِفٍ: وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ {يَصْعَدُ} بِسُكُونِ الصَّادِ مُضَارِعُ صَعِدَ الثُّلَاثِيِّ (كَفَرِحَ يَفْرَحُ) وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَصَّاعَدُ بِالْأَلْفِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ وَأَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ، أَيْ يُحَاوِلُ الصُّعُودَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَالْبَاقُونَ {يَصَّعَّدُ} بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ وَأَصْلُهُ يَتَصَعَّدُ أَيْ يَتَكَلَّفُ الصُّعُودَ وَيُحَاوِلُ مِنْهُ مَا لَا يَسْتَطِيعُ.
وَهَذَا وَصْفٌ لِلْكَافِرِ غَيْرِ الْمُسْتَعِدِّ لِقَبُولِ الْإِسْلَامِ بِمَا أَفْسَدَ مِنْ فِطْرَتِهِ بِالشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ، وَبِمَا تَدَنَّسَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ رَذِيلَتَيِ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ اللَّذَيْنِ يَصْرِفَانِ الْمُدَنَّسَ بِهِمَا عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا يُدَعَى إِلَيْهِ وَالْحِرْصِ عَلَى اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيهِ، وَيَشْغَلَانِهِ بِمَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ مَعَ الدَّاعِي لَهُ إِلَى الشَّيْءِ، فَيَعِزُّ عَلَى الْمُسْتَكْبِرِ وَالْحَاسِدِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ أَجْدَرَ بِالْإِمَامَةِ مِنْهَا بِالْقُدْوَةِ، أَوْ بِمَا سَلَبَهُ اسْتِقْلَالَ الْفِكْرِ وَصِحَّةَ النَّظَرِ مِنَ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى الْأَصَمِّ، أَوْ مَا حَرَمَهُ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ وَهُوَ ضَعْفُ الْإِرَادَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ، فَهُوَ إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ يَجِدُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا أَوْ ذَا حَرَجٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ تَأْكِيدُ الضِّيقِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ أَضْيَقُ الضِّيقِ. وَجَعَلَهُ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْحَرَجَةِ الَّتِي هِيَ الشَّجَرُ الْكَثِيرُ الْمُلْتَفُّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يَتَّسِعُ لِلزِّيَادَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ أَعْرَابِيًّا مِنْ مُدْلِجَ عَنِ الْحَرَجَةِ فَقَالَ: هِيَ الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وَحْشِيَّةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: الْحَرَجُ فِيمَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمَوْضِعُ الْكَثِيرُ الشَّجَرِ الَّذِي لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الرَّاعِيَةُ قَالَ: وَكَذَلِكَ صَدْرُ الْكَافِرِ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْحِكْمَةُ، انْتَهَى. وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ الْحَرَجَ بِالتَّحْرِيكِ جَمْعُ حَرَجَةٍ وَهِيَ الشَّجَرُ الْمَذْكُورُ. وَأُطْلِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْمَكَانِ ذِي الشَّجَرِ الْكَثِيرِ الْمُلْتَفِّ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِدُ صَدْرَهُ شَدِيدَ الضِّيقِ لَا يَتَّسِعُ لِقَبُولِ شَيْءٍ جَدِيدٍ مُنَافٍ لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَى قَلْبِهِ وَفِكْرِهِ مِنَ التَّقَالِيدِ، أَوْ لِمَا يُزَلْزِلُ كِبْرِيَاءَهُ وَيُصَادِمُ حَسَدَهُ مِنَ الْخُضُوعِ وَالِاتِّبَاعِ لِمَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالرِّيَاسَةِ وَالْإِمَامَةِ، فَيَكُونُ اسْتِثْقَالُهُ لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَشُعُورُهُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا كَشُعُورِهِ بِالْعَجْزِ عَنِ الصُّعُودِ بِجِسْمِهِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا أَوِ التَّصَاعُدِ فِيهَا بِالتَّدْرِيجِ، أَوِ التَّصَعُّدِ أَيِ التَّكَلُّفُ لَهُ، وَصُعُودُ السَّمَاءِ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِيمَا لَا يُسْتَطَاعُ، أَوْ مَا يُشَقُّ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ تَفْسِيرُ الضِّيقِ الْحَرَجِ بِالشَّاكِّ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِلْخَيْرِ مَنْفَذٌ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يَجِدُ فِيهِ مَسْلَكًا وَلَا مَصْعَدًا.
{كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ مَثَّلَ جَعْلَ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا بِالْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فِي سُنَّةِ اللهِ فِيهِ وَتَقْدِيرِهِ لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْبَابِهِ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَيَظْهَرُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ وَلاسيما مَعَ أَهْلِ الدَّعْوَةِ، فَيَكُونُ مُعْظَمُهَا قَبِيحًا سَيِّئًا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِيمَا بَعَثَ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدٍ وَنِيَّةٍ فَإِنَّ الرِّجْسَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى كُلِّ مَا يَسُوءُ أَوْ يُسْتَقْذَرُ حِسًّا أَوْ عَقَلًا أَوْ عُرْفًا. وَقَدْ أَطَلْنَا فِي شَرْحِ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْخَمْرِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ [5: 90] فَهُوَ يُفَسَّرُ فِي كُلِّ كَلَامٍ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِالشَّيْطَانِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ بِكُلِّ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِالْعَذَابِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [10: 100] وَكَأَنَّ الْجَعْلَ فِي الْآيَتَيْنِ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِلْقَاءِ، أَيْ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فِي أَسْبَابِ جَعْلِ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا بِأَصْلِ الْإِسْلَامِ يَقَعُ الرِّجْسُ بِتَقْدِيرِ اللهِ تعالى عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنْ يَكُونَ لَازِمًا لَهُمْ، وَتُلْقَى تَبِعَتُهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي اجْتَنَبُوهُ هُوَ الَّذِي يَصُدُّ عَنْهُ وَيُطَهِّرُ الْأَنْفُسَ مِنْهُ وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَقُلْ: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَيْهِمْ، أَوْ عَلَى الْكَافِرِينَ.
وَاعْلَمْ- أَيُّهَا الْقَارِئُ- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ مُعْتَرَكَ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ- فَالْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنَّ خَلْقَ الْخَلْقِ وَقَعَ بِتَقْدِيرٍ سَابِقٍ مِنَ اللهِ تعالى وَنِظَامٍ ثَابِتٍ بِسُنَنٍ حَكِيمَةٍ يَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ هِدَايَةَ امْرِئٍ يَخْلُقُ فِي صَدْرِهِ انْشِرَاحًا لِلْإِسْلَامِ فَيَكُونُ قَبُولُهُ لَهُ بِخَلْقِ اللهِ، وَهَذَا الْخَلْقُ يَحْصُلُ آنِفًا أَيْ جَدِيدًا غَيْرَ مُرَتَّبٍ عَلَى تَقْدِيرٍ سَابِقٍ. وَالْجَبْرِيُّ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِسْلَامُ الْمَرْءِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَا كَسْبِهِ بَلْ بِفِعْلِ اللهِ تعالى وَحْدَهُ، وَمِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ مَنْ يَقُولُ: لَهُ فِيهِ كَسْبٌ يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلَكِنْ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَيَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِيمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُ فَيَخْلُقُ لَهُ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ وَالْحَرَجِ مَا يَثْبُتُ بِهِ عَلَى كُفْرِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ. وَلِلْمُعْتَزِلَةِ تَأْوِيلَاتٌ فِي الْآيَةِ حَاوَلُوا فِيهَا تَطْبِيقَهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي كَوْنِ إِيمَانِ الْمَرْءِ وَكُفْرِهِ مِنْ فِعْلِهِ الْمُسْتَقِلِّ، فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ خَاصَّةً بِهِدَايَةِ الْمُؤْمِنِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَضَلَالِ الْكَافِرِ عَنْهُ. وَبَعْضُهُمْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِمَنْحِ الْأَلْطَافِ وَالتَّوْفِيقِ الْمُسَهِّلِ لِمَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِفِعْلِهِ وَكَسْبِهِ، وَعَدَمِ مَنْحِ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يُرِيدُ مِنْهُ ذَلِكَ فَيَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مَا قَالُوهُ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ حُذَّاقُ النُّظَّارِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْخِلَافِ لِاتِّخَاذِ مَذَاهِبِهِمْ أُصُولًا مُسَلَّمَةً، وَمُحَاوَلَةِ حَمْلِ نُصُوصِ كِتَابِ اللهِ تعالى وَأَخْبَارِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا لِتَصْحِيحِهَا وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ خُصُومِهِمُ الْمُخَالِفَةِ لَهَا، فَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي كُلِّ آيَةٍ تَتَعَلَّقُ بِقَوَاعِدِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُفْرَدَةً عَلَى حِدَتِهَا وَلَا يَعْرِضُونَهَا عَلَى سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَوْضُوعِهَا لِيَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ جَاعِلِيهِ عِضِينَ. وَمَنِ اسْتَعْرَضَ عَقْلَهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ كُلِّ عَقِيدَةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِيهَا يَتَجَلَّى لَهُ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ اللهِ سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [4: 82] فَفِي الْكِتَابِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ لَا آنِفًا جَدِيدًا غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِنِظَامٍ سَابِقٍ. وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِحِكْمَتِهِ الَّتِي اقْتَضَتِ النِّظَامَ وَالتَّقْدِيرَ، وَتَنَزَّهَ بِهَا عَنِ الْأُنُفِ وَالْجُزَافِ وَالتَّفَاوُتِ وَالْخَلَلِ وَفِيهِ أَنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ الْمُكَلَّفِ يَقَعُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ؛ وَبِهَذَا لَا يَكُونُ فِعْلُهُ وَكَسْبُهُ مُنَافِيًا لِخَلْقِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَا جَاعِلًا لَهُ مُسْتَقِلًّا دُونَهُ تعالى مُسْتَغْنِيًا عَنْ تَوْفِيقِهِ وَإِمْدَادِهِ فِي كُلِّ حِينٍ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ جُعِلَ خَالِقًا لِعِلْمِهِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عَظِيمٌ، وَبِهَذَا الْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِ الْوَحْيِ، تَظْهَرُ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْخَلْقِ.
وَالتَّوْفِيقُ عِنَايَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ بِهَا عَلَى بَعْضِ عِبَادِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ تَوْفِيقَهُ كَمَا هُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، فَيَجْمَعُ لِمَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِهِ بَيْنَ مَا جَعَلَهُ فِي مَقْدُورِهِ وَتَنَاوُلِ كَسْبِهِ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْخَيْرُ وَالْمَصْلَحَةُ لَهُ، فَيَتَّفِقُ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَالْخُذْلَانِ ضِدُّهُ أَوْ عَدَمُهُ، فَهُوَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ وَلَا يَظْلِمُ اللهُ الْعَبْدَ الْمَخْذُولَ شَيْئًا، وَقَدْ يُفَسَّرُ الشَّيْءُ تَفْسِيرًا سَلْبِيًّا تَكُونُ حَقِيقَتُهُ إِيجَابِيَّةً وَتَفْسِيرًا إِيجَابِيًّا تَكُونُ حَقِيقَتُهُ سَلْبِيَّةً. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ مَشْهَدِ التَّوْفِيقِ، وَالْخُذْلَانِ مِنْ كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِينَ): وَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللهِ أَنَّ التَّوْفِيقَ: هُوَ أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَالْخُذْلَانَ: هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا تَعْرِيفٌ بِالرَّسْمِ وَاضِحُ الْمَعْنَى فِيمَا قُلْنَاهُ، فَمَعْنَى أَلَّا يَكِلَكَ إِلَى نَفْسِكَ: هُوَ أَنْ يَمْنَحَكَ فَوْقَ كُلِّ مَا فِي قُدْرَتِكَ وَمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ إِرَادَتُكَ مِمَّا تَعْلَمُ مِنَ الْخَيْرِ لِنَفْسِكَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ النَّجَاحُ وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ مِمَّا لَيْسَ فِي مَقْدُورِكَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُكَ وَحْدَكَ، وَبَعْضُ ذَلِكَ نَفْسِيٌّ وَبَعْضُهُ خَارِجِيٌّ، فَمَعْنَى التَّوْفِيقِ إِيجَابِيٌّ. وَقَوْلُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْخُذْلَانِ أَنْ يَكِلَكَ إِلَى نَفْسِكَ مَعْنَاهُ أَلَّا يَمْنَحَكَ شَيْئًا مِنَ الْعِنَايَةِ الْخَاصَّةِ فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكَ، وَلَا تَسْخِيرَ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، فَلَا تَنَالُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا بِقَدْرِ قُدْرَتِكَ عَلَى مَا تَعْلَمُ وَتُرِيدُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَقُدْرَتُكَ لَا تَصِلُ إِلَى كُلِّ مَا تَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ الْخَيْرَ لَكَ، وَعِلْمُكَ غَيْرُ مُحِيطٍ بِمَا فِيهِ ذَلِكَ الْخَيْرُ، فَأَنْتَ تَجْهَلُ كَثِيرًا، وَمَا أُوتِيتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَثِيرًا مَا تَظُنُّ الْجَهْلَ عِلْمًا وَالشَّرَّ خَيْرًا.
وَقَدْ جَاءَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَفْسِيرٍ إِيجَابِيٍّ فَقَالَ: وَالتَّوْفِيقُ إِرَادَةُ اللهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَبْدُ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ مُرِيدًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ، مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُبَغِّضَ إِلَيْهِ مَا يُسْخِطُهُ وَيُكَرِّهُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلِهِ وَالْعَبْدُ مُحِلٌّ لَهُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى. {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [49: 7، 8] فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْفَضْلِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ، حَكِيمٌ يَضَعُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَعِنْدَ أَهْلِهِ، لَا يَمْنَعُهُ أَهْلَهُ، وَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ. إِلَى آخَرِ مَا قَالَ وَأَجَادَ.

.فَصْلٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِسُنَنِ اللهِ وَآيَاتِهِ:

قَدْ سَبَقَ لَنَا قَوْلٌ قَرِيبٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِإِثْبَاتِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [108] (ص669 ج 7) رَدَدْنَا فِيهِ عَلَى الْفَخْرِ الرَّازِيِّ إِمَامِ هَذِهِ النَّزْعَةِ وَفَارِسِ هَذِهِ الْحَلْبَةِ، ثُمَّ إِنَّنَا رَأَيْنَاهُ قَدْ عَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى بَسْطِ الْقَوْلِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَاسْتَحْسَنَّا أَنْ نَنْقُلَ أَقْوَى كَلَامِهِ وَنُقَفِّيَ عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَجِيزٍ فِيهِ قَالَ: وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقَرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا فِي أَمْرِ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: لُعِنَتِ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا مِنْهُمْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ وَقَدْ جُمِعَ النَّاسُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْكُلُّ: أَيْنَ خُصَمَاءُ اللهِ فَتَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَنْسِبُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى قَضَاءً وَقَدَرًا وَخَلْقًا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ هُمْ خُصَمَاءُ اللهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ: أَيُّ ذَنْبٍ لَنَا حَتَّى تُعَاقِبَنَا وَأَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِينَا وَأَرَدْتَهُ مِنَّا وَقَضَيْتَهُ عَلَيْنَا وَلَمْ تَخْلُقْنَا إِلَّا لَهُ وَمَا يَسَّرْتَ لَنَا غَيْرَهُ؟ فَهَؤُلَاءِ لابد أَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ اللهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحُجَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللهَ مَكَّنَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ، وَإِنَّمَا أَتَى الْعَبْدُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَكَلَامُهُ مُوَافِقٌ لِمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ، فَلَا يَكُونُونَ خُصَمَاءَ اللهِ بَلْ يَكُونُونَ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهُوَ عَجِيبٌ جِدًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: يَبْعُدُ مِنْكَ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ مِنْ مَذَاهِبِ خُصُومِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ اعْتِرَاضٌ وَلَا مُنَاظَرَةٌ، فَكَيْفَ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ الَّذِي هَذَا دِينُهُ وَاعْتِقَادُهُ خَصْمًا لِلَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الَّذِينَ يَكُونُونَ خُصَمَاءَ لِلَّهِ فَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ الثَّوَابِ وَالْعَرْضِ وَيَقُولُ: لَوْ لَمْ تُعْطِنِي ذَلِكَ لَخَرَجْتَ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَصِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِرْتَ مِنْ جُمْلَةِ السُّفَهَاءِ. فَهَذَا الَّذِي مَذْهَبُهُ وَاعْتِقَادُهُ ذَلِكَ هُوَ الْخَصْمُ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الْكُفْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ زَمَنِ حَيَاتِهِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ، ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْطَاهُ النِّعَمَ الْفَائِقَةَ وَالدَّرَجَاتِ الزَّائِدَةَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ تِلْكَ النِّعَمَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقُولُ: أَيُّهَا الْإِلَهُ إِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً صِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِقْدَامَ ذَلِكَ الْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَحْظَةً وَاحِدَةً أَوْجَبَ عَلَى الْإِلَهِ إِيصَالَ تِلْكَ النِّعَمِ مُدَّةً لَا آخِرَ لَهَا، وَلَا طَرِيقَ لَهُ أَلْبَتَّةَ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَهَذَا هُوَ الْخُصُومَةُ، أَمَّا مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الثَّوَابِ فَهُوَ تَفَضُّلٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَهَذَا لَا يَكُونُ خَصْمًا.